كان أحمد العناياتي أشهر شعراء دمشق وأدبائها في أواخر القرن العاشر الهجري وأوائل القرن الحادي عشر الهجري. وقد ذاع صيته في تلك المرحلة التي كانت فيها دمشق خاضعة للخلافة العثمانية، ونشير بهذا الصدد إلى أن العناياتي عاصر أربعة من السلاطين العثمانيين هم: السلطان محمد خان وسليمان خان وأحمد خان الثاني والسلطان مصطفى خان الثاني.
واسم شاعرنا هو شهاب الدين أحمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد عبد الكريم العناياتي النابلسي، وقد ذُكر في كتب التاريخ أنه سمي بالعناياتي نسبة لوالده. وينتمي العناياتي إلى أسرة نابلسية كانت تعدّ الترحال شغلها الشاغل.
ولد العناياتي في مكة المكرمة سنة 936هـ / 1529م، وتوفي سنة 1014هـ / 1605م، وقد ورث عن عائلته حب الترحال والسفر حيث طاف بلدانا شامية عديدة. ومن عشقه الكبير لمدينة دمشق استقر فيها وأخذها موطناً ومسكناً له حيث اختار مسجد هشام بن عبد الملك وسكن فيه ردحاً من الزمن. ثم انتقل إلى السكن في المدرسة البادرائية وعاش فيها حتى وفاته.
عاش العناياتي وحيداً حيث لم يتزوج وكان من القانعين في دنياه يكتفي من الطعام بالزاد القليل ويلبس خشن الثياب وقد كتب يصف حاله هذه حيث يقول:
إذا لم أعز فمن ذا يعز وفقري وقنعي كنز وحرز
لبست من اليأس في الناس ثوباً عليه من العقل والفضل طرز
ولست أرى الذل إلا إذا كان في الحب والذل في الحب عزّ
ومثلي حرّ عباه غناه إذا أستعيد الناس خز وبز
ولكنه كان شاعراً عاشقاً محباً للجمال وتغزل بالحسان وكتب في هذا المجال العديد من القصائد النثرية والشعرية. ويذكر لنا (المحبي) وهو من اهتم بالكتابة عن العناياتي وتناول جميع ما كتب من قصائد، أن شاعرنا نظم شعراً جميلاً في الغزل والحب وها نحن نعرض أبياتاً نظمها العناياتي لمحبوبته التي ابتعدت عنه بسبب أقوال نسبت إليه إذ يقول:
إن المحب عناؤه لا يبرح في القرب والإبعاد فهو مبرح
القلب بالشوق الشديد مجرح والطرف بالدمع المديد مقرح
وإلى متى هذا الهوان من الهوى والله إن الموت منه أروح
قد كان جرح الصد منك نكاية فأتى فراق بالذي هو أجرح
ما أنت إلا الروح إن حجبت فما للجسم غير الروح شيء يصلح
ويتابع العناياتي قصيدته مبيناً فيها لمحبوبته أن ما سمعته من أخبار عنه هي كذب وتلفيق حيث يقول:
وأنا الذي لا ذنب لي، وللذتي بالعفو عني قلت إني مذنب
إن لم يكن ذنب فحلمك واجب أو كان لي ذنب فعفوك أوجب
ولقد صبرت على الشدائد كلها إلا بعادك عنه صبري يعزب
فارجع وعد عود الكرام لعادة عودتها فالأصل أصل طيب
ومن قصائد الغزل عند العناياتي قصيدة يقول فيها:
أجاعلة الهجر في الحب ديناً إن لم تجودي بوصل عِدينا
بعينيك هذا السقام الذي خفينا به فخفي الله فينا
وقولي لألحاظك القاتلات كم تفتكين أما تكتفينا
ظلمت القلوب أما تتقين ما يفعل الله بالظالمينا
لقد ظل شاعرنا عاشقاً طوال حياته، وقد أصابه الذل والهوان من الهوى ولكن وكما يقول: الذل في الهوى عزّ، ومن لم يتعذب في الحب لم يعرفه، وبهذا نذكر للعناياتي:
فيا مدعي العشق أين الشهود من الدمع والجسد المدنف
وأين الحنين وأين الأنين وأين الوفاء لمن لا يفي
لقد نظم شاعرنا قصائد متنوعة تتوزع أغراضها بين المديح والهجاء والرثاء والغزل وله العديد من قصائد الشعر الشعبي. وفي شعر المديح اشتهر العناياتي بمدحه للكبير والصغير والمأمور والأمير وعرف عنه إذا أراد مدح أحد لا يذهب إليه بل يرسل له ما نظم من شعر في مدحه مع أحد أتباعه متمنياً عليه أن يبعث له شيئاً مما تجود به نفسه من مال.
أما شعره الشعبي فقد جاء من محبته للفئات الشعبية ونختار هنا هذه القصيدة الشعبية حيث يقول العناياتي فيها:
يا ربة الخال كم ليلة بذات الخال
خطرت في خال يسبي كل من لو خال
فالصب ما خال قلبو من وصالك خال
بالعم والخال أفدي فوق خدك خال
ونلاحظ من الأبيات السابقة تكرار كلمة خال لكنها في كل موضع لها معناها فهي الشامة والمكان والخلخال والصديق وخلي البال .. إلخ.
ومن شعر الرثاء للعناياتي نذكر أبيات رثى فيها الشيخ أبي بكر الصهيوني الذي كان من كبار علماء الفلك والنجوم في عصره إذ يقول:
عز البقاء لغير الواحد الصمد وما سواه فمدفوع إلى أمد
فاعجب لمن عيشه ظنٌّ وموتته حتم وتلقاه كالمسروب في البلد
ما زلت في نكد من حين مرّ على سمعي بأن خلق الإنسان في كبد
والناس في هذه الدنيا مآربهم شتى وهم من سبيل الموت في جدد
ويقول فارس أحمد العلاوي. وهو من اهتم بسيرة العناياتي وكتب عنه كُتيّب استخلصنا منه هذا المقال، يقول أن للعناياتي ديوان يوجد منه نسخة خطية في المتحف البريطاني ونسخة ثانية في إيطاليا ويوجد من الديوان عدة نسخ غير كاملة في كل من مكتبة (غوتا) الألمانية ومكتبة (برلين) الملكية والمتحف البريطاني. وهناك كتاب بعنوان (الدرر المضيئة في الأخلاق المرضية) وهذا كتاب في الأدب يتألف من عدة فصول خصص العناياتي كل فصل لخلق من الأخلاق الإسلامية.
لقد كان العناياتي شاعراً كبيراً أمتع العامة والخاصة بشعره، وقد ذكرت كتب التاريخ التي تناولت العناياتي أن شعره يوازي شعر الأندلسيين في جزالتهم ورقة معانيهم. وقد جمع خصائص قل نظيرها بين شعراء عصره، فقد كانت قصائده قوية متينة الأسلوب، ونذكر هنا وصف (الحسن البوريني) المؤرخ الدمشقي المعروف بصداقته القوية للعناياتي بأن هذا الشاعر هو أديب الزمان، وشاعر العصر والآوان، جاب الأقطار، ودار في كل دار، وجال في كل مجال حتى اغتدى في الأدب علاّمة، وصار على بلوغ المراتب العالية أصدق علامة.
المرجع: فارس أحمد العلاوي: أحمد العناياتي، أشهر شعراء دمشق وأدبائها. دار المعد 1995